الجمهور يبحث عن ريتا في ظلال محمود درويش (2 – 2)

لا أحد يعرف على وجه اليقين كيف بدأت قصة الحب البائس التي عقدها القدر بين الضحية والجلاد؛ بين العاشق الفلسطيني محمود درويش و”ريتا” اليهودية، التي تعددت الروايات بشأن من تكون؟، لكن المؤكد أن درويش أدخل ريتا إلى الخيال الفلسطيني لتصير رمزاً يعكس عبره تفاصيل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. فما بين خمسينيات وستينيات القرن العشرين، على وجه التقريب، وقع الشاعر في عشق فتاة يهودية، أو اختلقها!. جاءت مع شعبها إلى أرض أجداده، ليُهجّر قسراً في جنح الليل هو وأهالي قريته إلى لبنان، ويطارده وصف “لاجئ” بين ليلة وضحاها، بعدما ذاق مرارة اللجوء المبكر وهو لا يزال طفلاً في السابعة من عمره على يد الإسرائيليين.. هيمن سلطان الحب على قلبه، لكن أبى القدر إلا أن يمطر خيال الحب الحالم بالرصاص ويغرق جثته في الدماء.

بحلول حرب يونيو (حزيران) عام 1967، التحقت الفتاة بالجيش الإسرائيلي، ووقفت البندقية حائلاً ببين عيون العاشقيَن، وحين لاحت ريتا في خيال الشاعر أثناء اعتقاله سياسياً بأحد السجون الإسرائيلية، رآها “تحمل بندقية خفيفة”، ورسم سيناريوهات متعددة لما قد تفعله في تلك اللحظة التي يفكر بها؛ إذ ربما تشرف على استجواب، أو تعذب فتاة عربية في مثل سنها، وفي مثل جمالها السابق، لينتهي إلى تصفية المعشوقة اليهودية بداخله إلى الأبد، ويحييها بدفتر أشعاره في أكثر من قصيدة، وفي أعماله النثرية الأخيرة قبل رحيله، ويثير بها حيرة الجمهور والنقاد عن حقيقة الأمر.

يصاب الشاعر بالقلق من بحث الجميع عن هوية المعشوقة، فيمتنع عن استدعائها إلى الكتابة لفترة من حياته، ويخفيها عن أنظار الجمهور تخوفاً من أن تُحمَّل شخصيتها مضموناً من خارجها، تحديداً كي لا تلقى مصير قصيدة “بطاقة هوية” التراجيدي، وتتحول إلى “سجل أنا عربي” عاطفية، فما قصة هاتين القصيدتين اللتين دفعتا الشاعر إلى الاقتراب منهما على حذر؟ وهل ريتا حقيقة أم اختلقها الشاعر كحيلة درامية تضفي ثراءً فنياً على أشعاره وتملأ جنبات حياته بالصخب معها وعنها؟

قبل أن نبدأ

كانت القضية الفلسطينية قدراً مكدوراً تحمّل شاعرها محمود درويش أوزارها بعدما عُرف بها وعُرفت به، وصارت صليبه الذي يحمله على ضهره، مع آخرين بالطبع. لكنّ درويش المولود في البروة عام 1941 والمتوفى في 2008، عاصر التحولات الدرامية الكبرى لوقائع القضية الفلسطينية منذ الصغر على نحو مغاير، فترسخت في وجدانه، بعدما تسربت إلى طفولته المبكرة معاني الحرب، والمطاردة، والحدود، والعودة، والوطن. وهي معانٍ شكّلت بداخله مفهوماً خاصاً للقضية الفلسطينية، فاستحق أن يصير كما وصف “شاهد المذبحة وشهيد الخريطة”، ويُمسي لسان حال الغالبية العظمى لشعب لا يزال يعاني تحت وطأة الشتات، لتشكّل نصوصه ملامح الهوية الثقافية لفلسطين شعرياً وإنسانياً.

“سجل أنا عربي”

المفارقة هنا أن رغم متلازمة “درويش وفلسطين”، فقد كان حريصاً على ألا يتخذ من مركزية القضية الفلسطينية ذريعةً لذيوع صيته، بل كثيراً ما رفض إلقاء قصائده السياسية تحت إلحاح الجمهور العربي على سماعها منه، بينها “سجل أنا عربي”، ليعلن مقولته الشهيرة: “ارحمونا من هذا الحب القاسي”. وهو رفضٌ دبلوماسيٌّ كثيراً ما ردده. وكأنه صرخة للفت انتباه الجمهور والنقاد إلى النزعة الإنسانية داخل قصائده، بالإضافة إلى إساءة تأويلها التي أخرجتها عن سياقها فامتنع عن إلقائها في أحيان غير قليلة. 

مفارقة أخرى في المشهد ذاته، تتمثل في أنه لم تتعرض قصيدة إلى سوء الفهم ومغالطة التأويل واختزال درويش بداخلها بقدر ما تعرضت قصيدته الأشهر “بطاقة هوية”، من بين 4 قصائد في منجزه تمركزت حول القضية الفلسطينية على نحو مباشر هي: عاشق من فلسطين، على هذه الأرض، وعابرون في كلام عابر، رغم تمحور مشروعه حول الهوية بالطبع.

قصيدة “بطاقة هوية”، المعروفة لدى جمهوره بـ”سجل أنا عربي”، نشرت في مجلة الجديد في مارس (آذار) عام 1963، شهر ميلاده بالجسد، الذي شهد أيضاً ميلاده شعرياً في الداخل الفلسطيني والعالم العربي عبر هذه القصيدة، ومع هذا فقد سعى الشاعر إلى الكف عن إلقائها في المحافل، ويرجع سبب عزوفه عن القصيدة على شهرتها، إلى وقوع القصيدة في فخ “سوء الفهم والتأويل المغلوط في العالم العربي”، بالإضافة إلى طبيعتها المباشرة التي تعارضت بالطبع مع دخوله بوابة التجريب الشعري زمن كان في بيروت حتى أعماله الاخيرة. بينما الحقيقة أنه لم يتغن بالقومية العربية على نحو ما فهم جمهور القراء.

ويكشف عماد الطراونة في كتابه “حكاية محمود درويش في أرض الكلام”، موطن المغالطة في تلقي الجمهور لهذه القصيدة فيقول، “لم توضع كلمة عربي في سطر القصيدة الأول في سياقها الصحيح، إذ فُهمت القصيدة على أنها نشيد قومي جامع يُسهم في ترميم كبرياء القومية العربية الجريحة بعد نكسة يونيو (حزيران) عام 1967”. ويضيف: “الواقع أن كلمة عربي داخل الدولة العبرية تحمل دلالات مضادة على نحو ما يشير المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند في مقدمة كتابه “اختراع الشعب اليهودي”؛ إذ فرضت إسرائيل على مواطنيها الإشارة إلى انتمائهم الديني والقومي في بطاقة الهوية، بينما فرضت على الفلسطينيين أن تكون هويتهم عربية؛ سعياً منها لمحو كلمة فلسطيني من السجلات، فأنت عربي إسرائيلي؛ لأن كلمتي فلسطين وفلسطيني كانتا ممنوعتين في الأراضي المحتلة”.

سُئل محمود درويش في حوار صحافي عن كراهته لقصيدة “سجل أنا عربي” فأجاب: “هذا غير دقيق، مشكلتي ليست مع هذه القصيدة، إنما مع قارئها”. وأوضح: “أن محمول القصيدة السياسي والرمزي لا يشكل عبئاً عليّ، لكن المشكلة مع القارئ الذي عدّها بطاقة هويتي الشعرية”.

استطرد درويش بقوله، “أنْ أقول أنا عربي في إسرائيل هو عصر التحدي للسلطة الإسرائيلية، لأنها تضطهدني بسبب انتمائي القومي. وإصراري على التمسك بأسباب اضطهادي يعتبر تحدياً ثورياً إلى حد ما. ولا أقول إني عربي لكي أعبر عن اعتزازٍ وتفاخرٍ، أقولها لأعبر عن رفض عدوي وعن مقاومتي للعدمية القومية. سأكون مضحكاً لو وقفت أمام مئة مليون عربي وأقول لهم أنا عربي! ماذا يعني لهم ذلك؟ يعني أنني متعصب ولستُ ثورياً”.

المعنى نفسه أكده درويش في كتابه “ذاكرة للنسيان” الذي جاء فيه: “سجل! إيقاع قديم أعرفه. أعرف هذا الصوت البالغ من العمر خمساً وعشرين سنة. سجل أنا عربي، قلت ذلك لموظف قد يقود ابنه إحدى هذه الطائرات. قلتها باللغة العبرية لأستثيره. وحين قلتها باللغة العربية مسّ الجمهور العربي في (الناصرة) تيارُ كهربائي سَرى أفلت المكبوت من قمقمه. لم أفهم سر هذا الاكتشاف، كأني نزعت الصاعق عن ساحة ملغومة ببارود الهوية، حتى صارت هذه الصرخة هويتي الشعرية، التي لا تكتفي بأن تشير إلي، بل تطاردني. لم أدرك أني كنت بحاجة لأن أقولها هنا في بيروت: سجل أنا عربي. هل يقول العربي للعرب إنه عربي؟!”.

أثينا.. يا أثينا.. أين مولاتي؟

على السكّين ترقص

 جسمها أرض قديمة

 ولحزنها وجهان: وجه يابس يرتدّ للماضي

ووجه غاص في ليل الجريمة

ريتــــا اليهودية

جمهور ونقاد درويش طاردوا شخصية “ريتـــا” اليهودية، التي استدعاها إلى المخيال الفلسطيني على حذرٍ منه، بعدما أثار تأويل الجمهور لقصيدة “سجل أنا عربي” المخاوف والهواجس بداخله. وتقصوا أثرها، فسألوا عن هويتها، ومن تكون؟، وهل هي حقيقة أم أنها اسم مستعار للعديد من قصص الغرام التي عاشها درويش، بحسب قوله: “إنها إنسانة. ليست محددة”؟ 

كان أول ظهور لـ”ريتـــا” في منجز درويش الشعري عام 1967، وأطلت بها على الجمهور في قصيدة “ريتا والبندقية”، ثم تابعها في قصائد “ريتا أحبيني”، و”تقاسيم على الماء” و”الحديقة النائمة”. يتتبع الطراونة أثر “ريتــا” في منجز درويش فيقول: “تَكرر اسمُ ريتا في دواوين درويش: “آخر الليل”، و”العصافير تموت في الجليل”، و”حبيبتي تنهض من نومها”، و”أحبك أو لا أحبك”، و”أعراس”. كما ظهرت أيضاً في قصيدة “شتاء ريتا الطويل” بديوانه (أحد عشر كوكباً)، وظلت تتردد في أعماله النثرية حتى رحيله”.

ريتا خارج القصيدة

أطلق جمهور الشاعر وأصدقاؤه أياديهم وراحوا يفتشون في دفتر أشعاره ويبحثون في يومياته ليحددوا هوية ريتا، فتعددت الروايات بشأنها. وبحسب الطراونة، منهم من أشار إلى أن ريتا هي الكاتبة اليسارية “تانيا رينهارت”، تلميذة عالم اللغويات الأميركي المشهور نعوم تشومسكي، المولودة عام 1943، وخاضت المعارك في مواجهة احتلال فلسطين، وكانت واحدة من أبرع المحللين للسياسة الإجرامية التي تنتهجها حكومات إسرائيل المتعاقبة”. وهو ما نفاه صديق هذه المرحلة الراحل سميح القاسم في تصريحات صحافية جاء فيها: “ريتا عابرة جداً في حياته، ومعرفته بها لم تتجاوز أشهراً”.

رواية أخرى أشارت إلى أن درويش أحب شاعرة يهودية، استناداً لقوله، “والشاعرة الحسناء تبكي على قدميّ في الليل، وتدلُ الشرطةَ على آثار قدميّ في الصباح”. وهي علاقة نفاها درويش شخصياً. هذه الأبيات أثارت بدورها علاقة درويش بالشاعرة الإسرائيلية “داليا ريبكوفتش” في الستينيات، وجعلت البعض يتكهن بأنها ريتا المقصودة في أشعاره، فهي يسارية، معروفة بمناصرتها للقضية الفلسطينية، ومناهضة للاحتلال، وداعية إلى السلام. ربما فتح شهية النميمة أنها سبق وكتبت مقالة، انتقدت فيها السلطات الإسرائيلية بسبب منعها درويش زيارة أهله في فلسطين عام 1948. و”ريبكوفتش” مولودة في عام 1939، ونشرت أشعارها في خمسينيات القرن العشرين، وفارقت الحياة منتحرة في منزلها بتل أبيب عام 2005.

هذه هي ريتا؟

كان جمهور محمود درويش على موعد مع ريتا ثالثة بعد نصف قرن من ذِكرها في أشعاره، بعدما فُتح الستار، وأعلنت عن نفسها في الفيلم الوثائقي “سجل أنا عربي” عام 2014، وكانت هذه المرة الراقصة اليهودية من أصل بولندي “تامار بن عامي”، المقيمة في برلين، وقالت: “بداية علاقتي بدرويش بدأت بعد رقصة أديتها في مقر الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي كان عضواً فيه قبل استقالته، وكان عمري آنذاك 16 عاماً، لنفترق بعدما استدعيت إلى الخدمة العسكرية بسلاح البحرية الإسرائيلية”.

تصريحات درويش بشأن ريتــا متضاربة؛ فمرة أعلن أنها مجرد اسم فني، وأخرى اعترف أنها اسم مستعار لشخصية حقيقية، وبين هذا وذاك كان يخشى تأويل قصائده الغرامية لريتا، على نحو ما وقع مع قصيدة “أنا عربي”. إذ قال في حوار صحافي عام 2002: “أخشى أن يُؤول الحب بصورة عامة إلى موضوع من خارجه. أتعامل مع المرأة ككائن إنساني، وأُجري معها حواراً شعرياً إنسانياً متكافئاً بين كائنين إنسانيين. للأسف في ريتا تتداخل نساء عدة، صارت ما يشبه الشيفرة، لذلك أقلعت تماماً عن الكتابة عنها لكي لا تتحول (سجل أنا عربي) عاطفية”.

يخبرنا درويش، “أنه بحلول حرب يونيو 1967 انتهت القصة. فقد دخلت الحرب بين الجسدين بالمعنى المجازي، وأيقظت حساسية بين الطرفين، لم تكن واعية بها من قبل. تصوّر أن صديقتك جندية تعتقل بنات شعبك في نابلس مثلاً، أو حتى في القدس، ذلك لن يثقل فقط على القلب، ولكن على الوعي أيضاً. حرب 67 خلّفت قطيعة عاطفية في علاقة الشبان العرب والفتيات اليهوديات”.

قال درويش أيضاً في “يوميات الحزن العادي” بعد وقوع هزيمة 1967: “عدتُ إلى زنزانتي من جديد، وفكرت بها، ماذا تفعل الآن؟ كانت في مدينة نابلس، أو في مدينة أخرى. واحدة من الفاتحين تحمل بندقية خفيفة. ولعلها في تلك اللحظة كانت تأمر الرجال برفع أياديهم، أو الركوع على الأرض، أو لعلها كانت تشرف على استجواب، أو تعذيب فتاة عربية في مثل سنها، وفي مثل جمالها السابق”.

ومهما يكن الحال، وأيا من تكن ريتا؛ اسماً مستعاراً أو امرأة حقيقية، فقد استحضرها درويش رمزاً، وأدخلها الخيال الفلسطيني، وعكس عبرها الصراع الفلسطيني مع العدو الصهيوني. فقصة ريتا في أشعار درويش تحمل أكثر من حدود العلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة.

 “بين الإشارة والعبارة هاجساً؟

ماذا تقول؟

 لا شيء يا ريتا

 أقلدُ فارساً في أُغنية

 عن لعنة الحب المحاصر بالمرايا

عَنّي

 وعن حلمين فوق وسادةٍ يتقاطعان ويهربان

 فواحدٌ يستل سكيناً وآخرُ يُودِعُ النايَ الوصايا

 لا أدرك المعنى، تقول

 ولا أنا، لغتي شظايا

 كغياب امرأةٍ عن المعنى”.

كاميرا الحياة (8).. داخل المعترك خارج الحياة

أنصت إليها بقلبه، وحينما شعر أن لسانها تعطل عن الكلام، قاطعها ليخفف من وقع اللحظة، ليروي لها ويكسر حاجز الملل، فأخبرها، أما أنا يا صديقتي، فقد بلغت من الهموم عتياً، صرتُ كما يقول الشاعر “كهلاً صغير السن”. شقتني الأوجاع شقاً منذ وقت طويل، لم تكن لدي رفاهية أن أخلق عرائسي على نحو ما صنعتي كي أحكي لها وأتناقش معها وأملي عليها ما تفعل وما لا تفعل. فقد دُفعت بين الحشود وضجيج السيارات والباصات وحواري المدينة كي ألملم رزقي من هنا وهناك. رزقي الذي بُعثر في الطرقات وعليّ أنا لا غيري من يجمع شتاته، كما يروي البعض.

2

الأصوات الصاخبة لرواد الشوارع أعلى من أن تسمع فيه صوتَ أنفاسك، ولو حدث، وشرد ذهنك فقد اقترفت جريمة لا تغتفر، تستيقظ منها على دبيب أكتاف المارة. ولو لم تنتبه وتتأهب، ربما تُدهس تحت الأقدام ولن يسمع أحد صراخك، لذا لا مكان لمتلفت هناك. لكن هل يصح هنا الاستشهاد بأدبيات أهل التصوف، وقولهم “المتلفت لا يصل” ليجسد المشهد على سبيل المجاز؟!

ربما لم أكن أعرف أهل التصوف بعد، ولم أسمع عنهم، وإن رأيت الدراويش والمجاذيب الذين أشار حدسي نحوهم بشعور غريب شاركوني فيه وتبادلناه، ولم يتوقف أحد منا ليسمع الآخر. فكلانا يدرك القوانين جيداً، لذا لم تتحدث الشفاه وإن التقطت العيون الإشارة. 

ما الذي جاء بنا إلى هنا!

 من خيالك الرحب في قلعة طفولتك المحمية بالحراس والمحيطين بك ومن يقدم النصح والإرشاد، إلى شوارع ضيقة بأنفاس البشر التي لا تُحصى. قانونُها يُدرك بنظرة عين، ويعني ببساطة “استنهاض حواسك، ووعيك كي تحمي جسدك الضعيف وتستطيع الوصول”، وقتها، ووقتها فقط ستدرك أن قليلي الحيلة، والجهلاء بهذا القانون فقط، هم من يحاولون أن يعطلوا المسير بالتهليل في الطرقات الضيقة، وإثارة الشغب، أما العارفون فيدركون دائما ألا وقت هناك لشيء سوى ما ذهبت لقضائه. 

هل يشبه المشهد هنا غابةً يتحرك بين أشجارها ودروبها القطيعُ، ويكون قانونها البقاء للأقوى أو للأصلح، ربما!

نظر في عين صديقته فأشفق عليها بعدما رأى الزحام الذي يروى لها عنه وقد تحرك بداخلها، وارتفع ضغط دمها للمفارقة الشاسعة بين المشهدين (ما روته وما وضعها أمامه من وقائع وأحداث). فهل أراد صدمتها بمشاركة الحديث معها، في محاولة لإيقاظ حواسها لعوالم أخرى أكثر شراسة على أرض الواقع عن تلك التي تدور في خيالها؟ ربما.

لكنه شعر في النهاية أن لابد للحكاية أن تكتمل، ولو في عجالة، كي تصل الرسالة على النحو الذي يريده، لتستكمل هي بدورها الحديث.

الحياة 2

تابع، أتعرفين يا صديقتي، المأساة هنا ليست في تفاصيل المشهد بقدر ما هي في الصراع القائم من أجل لا شيء.. أتعرفين معنى اللا شيء؟

همس في أذنها إنهم يهرولون من أجل الشقاء والكدح، فأبواب الجنة لم تكن مفتوحة هناك ليسارعوا إلى دخولها فتطيب لهم الحياة!، فلم يكن هناك سوى الجحيم مجسد، يهرول الجميع، كلٌ في طريقه كي يجلب رزقه من محجر الحياة بعد أن يستحلب الصخر؛ بضع جنيهات تكفل لهم تغطية يوم من أيام الحياة التي تخلو تماماً من الحياة، فهي جنيهات لا تصنع شيئا أكثر من سد الرمق، وربما تكفي بالكاد تلبية احتياجات الأسرة. وتنفد من أيديهم بمجرد تسلمها والتفكير بما يتوجب عليهم سداده، ليبدأ يوم جديد، بشقاء جديد، تماما كصخرة سيزيف كما تروى الأساطير.

دعيني أوضح لك الأمر على نحو أكثر دقة.

لفترة طويلة من طفولتي، وبعدما اشتد عودي عملت بالمقاولات، كنتُ ورفاق الكدح نقضي النهار في تكسير الجدران وتشوين الطوب وتحميل الأسمنت، وأحياناً الرخام باهظ الثمن.

أتذكر أنه كان هناك نوع من الرخام لونه أحمر بدرجة جميلة يعمل على تشوينه مجموعة من العمال، كنت من بينهم. وأخبرنا الصنايعي بفخرٍ وهو يوصينا به خيراً، ويعرفنا إليه، أنه يسمى “لحم هوانم”. وهو واحد من أرقى وأغلى أنواع الرخام حينها.

 في الحقيقة لم أسع للتحقق من الأمر، واستقصاء هل كان الاسم دارجاً بين الحرفيين، من عدمه، ولماذا لقبوه بهذا اللقب. مرت أيامي بين العمال والحرفيين على نحو كان يمتلأ بالحكايات الغريبة التي قد تصل إلى حد الأسطورة.

لحم هوانم

الأهم من هذا وذاك أننا بعدما نقضي اليوم من الثامنة إلى السادسة؛ أي من مطلع الشمس  إلى مغربها، ونتناول عشاءنا كنا ننام فرحين، لأن مشرف الأعمال أخبرنا أن سيارة رمل سوف تأتي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وعلينا تشوينها إلى الداخل قبل أن يمتلا الشارعُ بالمارة، ويأتي موظف الحي، تجنبا لتحرير مخالفة لمالك العقار، يدفع على إثرها غرامة إشغال طريق، بالإضافة إلى تحميل مخلفات الهدم التي قمنا بها في الصباح، وهو ما يعني لنا يومية أو يوميتن زائدتين على ما نحصل عليه، كنا نهرول إلى هذا بإرهاق مميت وبفرحة غامرة.. ألم أقل لك منذ قليل إنهم يهرولون إلى الشقاء؟،

أي جنون هذا الذي يسعى إليه الفقراء، وقليلو الحيلة؟

ألم يكن أولى بهم أن يتباطأوا في جني الشقاء الذي لا حيلة له في جلبه؟

لكنهم معذرون، فأن يفكر أحدهم على هذا النحو، فهذا يعني أنه سيكون في العراء، وربما يموت جوعاً، فلا حيلة لديه سوى قواه الجسدية التي تتآكل مع الأيام، بعدها يتولاه الرب!

 

الحياة 3

 

مرت الأيام، وتنقلت في عدد من الأقاليم أعمل في تشييد مبنى هنا، وهدم آخر هناك، وأنا أتأمل شئون الله في خلقه، أرى الفقراء والأثرياء ومن هم دون ذلك، عشت حياتي أملأ عيني بالمشاهد والمواقف، ربما تظنين أن في هذا ثراء قد لا يوقعني في المخاوف والاكتئاب، الحقيقة قد يكون معك حق وإن كنا سنختلف في التفسير، إذ ليس هناك وقت للخوف وأنت داخل المعركة، وإلا ستدهس على النحو الذي أخبرتك عنه في بداية الحديث.

 

الحياة 4

 

تنهد بعدما غلبه الوجع إثر الحكايا، وأخبرها كي ينهي ما شرع في بدئه: أحاديث كثيرة تختزلها الضلوع، تختلف وقائعها لكنها تتفق على دورانها في فلك الهزيمة والانكسارات والمذلة والجبر والاستغلال. لعل المنحة هنا تتجسد في الوعي المبكر للحياة التي أورثتني إياها! وربما كانت في واقع الأمر محنتي الكبرى، لست أدري. ربما سأروي لك عنها لاحقاً، بعد أن نقف على أطراف مدن خيالك ومن وقع عليهم اختيارك ليشاركوك آمالك وطموحاتك وتُملي عليهم ما يدور في ذاكرتك.

 للحديث بقية

كاميرا الحياة 7.. أمام المرآة

كاميرا الحياة 7.. أمام المرآة

ماذا لو قررنا أن ندخل معاً لُعبة المرايا في ملاهي الحياة؟، تـُرى كم وجهٍ سنرى، وأى أشباح سوف نتلمسها ونسمع همسها، وماذا لو توحدنا مع هذه اللعبة المخيفة، وصدّقنا أن ذواتنا تختبئ بداخل أبعادها، بل ماذا لو قررت الخروج من هذه الأبعاد، بعد أن يراودك الشك فتكتشف أن مَنْ كان باللعبة شخصٌ غيرك.

دعنا الآن من اللُعبة والمجاز، ولنقدم نموذجاً مجسداً لفكرة المرايا. ماذا لو اكتشفت أن بداخلك شخصاً لم تكن تعرفه؛ أفكارك ومشاعرك، ومواقفك لم تكن أنت، بل كانت مجموعاً من الأشخاص والأفكار هم وهي مَنْ أملت عليك كل شىء.. كل شيء بالمعنى الحرفي للكلمة، وحينما وقفت لتسال ماذا تبقى منك؟، تأتيك الإجابة ألا شيء.

لا شيء على الإطلاق، هنا تُلقي بنفسك في جحيم الشك، وتود لو رجعت إلى رحم الأم، أو أنك لم تـُلق به نطفةً في لحظة، لا حيلة لك في منعها.

خبرني وقتها، فيمن ستثق؟، وماذا ستعتقد؟، والسؤال الجوهري، ماذا عن مصير كل ما وصلت إليه، من معارف، وأشخاص، كيف ستكون نظرتك إلى الأمور؟

أجدني وأجدك الآن وقد خرجنا من مجرد لُعبة مرايا إلى مسرح جريمة، لاتزال آثارها واقعاً مجسداً أمام مرآة عينيك، بينما يختفي الفاعل، وينفي البعض وجود جريمة من الأساس، وحينما تتحسس أفكارك وقناعاتك تلمسها يداك، وتراها عيناك، لكنك تعجز أن تبرهن عليها.

يا الله، كم هو مؤلم أن تقف أمام المرآة ولا تراك!

أطياف وأشباح تتحرك حولك، ولا تستطيع أن تشير بإصبعك وينطق لسانك “إنهم هنا”، وفي الوقت ذاته لا تستطيع أن تقول في حضرتهم، “أنا هنا”.

أزعم أننا هنا على عتبات الجنون بعدما طرقنا معاً أبواب الشك، وتورطت أقدامنا في الدخول إلى عتبات الاضطراب.

بهذه المشاهد المؤلمة جسّدت له الصديقة أزمتها التي تمر بها، وأوصته بأن يكون راوياً للمأساة.

رئيسية

في البدء لم ينكر عليها أحد تفردها، وإخلاصها فيما تصنعه، وقد وضعها هذا في مقام رفيع بدائرة المحيطين بها، وجعل منها شخصاً ذا شأن، يظن أنه رأى الحقيقة مجسدة بعينيه اللتين خدعتهما مرآة الضلال، دون أن تدرك.

تضخمت الأنا، ونال منها الكِبر، فكانت الصورة كاريكاتورية بامتياز؛ (عقل  متضخم رُكِّب على جسد صغير). يستشيرونه الكبار على أنها منهم، بينما أقرانها يرونها مضحكة، فيكيلون لها من التنمر ما استطاعوا إليه سبيلا.

ضاق الجسد على العقل. ضاق بها الواقع المحيط. فاختلقت آخرين في عالم افتراضي قبل أن يكون للعالم الأزرق (فيسبوك) وجودٌ فى دنيا مارك زوكربريج. خلقتهم في ظلمات العقل الباطن والغرف المغلقة، وحبستهم فى عقلها الصغير، لتستدعيهم وقت الحاجة إلى أن توحدت معهم، فصاروا عالمها الذي لا تجيد التعامل مع سواه، ونسيت أن تعيش في دنيا الناس.

حلم

كبرت الحواديت بداخلها، وخرجت الأشباح من عقلها الصغير الذي لم يتمرس على أوجاع الحياة، إلى النور، وكفل لها خيالها العظيم أن تضع من هم على أرض الواقع في أنماط عرائسها التي خلقتها، وبدأت تمارس على الجميع حق تقرير المصير كدمى، لا كأفراد. استمتعت كثيرا بلُعبة السمع والطاعة، التي أتقنوها بعدما صارت لهم رباً، فهم من صنع خيالها وكان حق لها عليهم أن يسمعوا دبيبها كما تريد هي، لا كما يمليه الواقع المعاش.

على هذا النحو تعاملت مع دنيا الله وخلقه، ونصبّـت نفسها “ربة اليقين المطلق”، دون أن تدرك أن الحياة لها ألفُ وجهٍ ووجه.

كفلت لها الذات المتضخمة ألا ترى سواها. وحين دبت صراعات الداخل ظهر صراخ وعويل، كاد يفقدها دائرتها المقربة لها، بعدما ساءت أحوالها الصحية والمزاجية.

persona_tunnel1

وماذا بعد؟

هنا كان لابد من التوقف وطرح السؤال المشروع، أين الحقيقة وأين الخيال فيما يجري، وبين هذا وذاك، وقفت في مفترق الطرق لتُفصح عن السجن الذي ورطت نفسها بالدخول إليه دون أن تدرك بعدما امتدت بها لعبة الظلال. ونسيت أنها في مفترق طرق، وبين الاتجاهات المتعددة وضجيج السيارات الذي يصم أذنيها، وبين السجن الذي شيدت جدرانه كي تحتمي بها، لم تعد تعرف أين تقف بخطاها على وجه اليقين؟

 وكان السؤال الأكثر خطورة (هل تحولت لعبة المرايا إلى مسرح للجريمة؟)…

للرواية بقية.

للمزيد، اقرأ أيضا

كاميرا الحياة (6): الذئاب المنفردة تفترس المارة

كاميرا الحياة (6): الذئاب المنفردة تفترس المارة

“ابحث عن الذئب بداخلك واقتله، فإن لم تفعل سيلتهمك”
يُحكى أن الإنسان ميال بطبعه إلى الأنانية، غاية ما في الأمر، أن هناك من روّض وحشها بداخله، هؤلاء ممن يبعثوا مع الأنبياء والصديقين، الذين مضى زمنهم، وهناك من أهال عليها التراب ودفنها حية كي يحظى ببعض الإنسانية تحت مسمى “العطاء”، وإنْ ظلت أشباحها تراوده عن نفسها من حين لآخر، وثالث يؤدي في اللعبة دور الذئب الذي يتربص لكل شاردة وواردة، أدرك هذا أو لم يدرك. بين الثاني والأخير؛ (من يقاوم الذئب بداخله وبين الذئب ذاته) يبدأ الصراع، بين من هو ذاتي حد الأنانية، وبين من هو غيري حد الإسراف؛ تحت لذة التغافل، أو تحت وطأة الاعتياد أو الجبر، أو لغيرها من الأسباب.
مع الوقت يكون المجتمع أمام نوعين من البشر، أفراد يستمتعون بالعطاء الذي يُبرر بألف سببٍ وسبب حد الإدمان والمازوخية، وبين آخرين تمردوا، أو في طريقهم إلى التمرد، إزاء ما يجري حولهم من معطيات في العلاقات الشخصية قد تصل بهم حد الكفر بالآخر، والتأهب الذي ينال من رحمتهم حتى بأنفسهم، أو العطاء تحت وطأة الانكسار النفسي، الذي لا حول لهم ولا قوة في رده؛ لاعتبارات يسهل للعابر أن يحصيها، لكن يصعب عليه أن يمر من تحت نيرانها، بل والتصرف بشأنها لو وقع تحت مذلتها، أو أن يقيم ثورة من الشعارات غير المسئولة تجاهها. وتكون النتيجة إما أننا نقف أمام أفراد ساديين منتقمين ممن حولهم، هذا إذا اختاروا ألا يكونوا في اللعبة فريسة، أو أمام مازوخيين استمرأوا الأحوال وتصاريف الحياة، وبين هذا وذاك ينتج المجتمع أفرادا مشوهين لا جدوى منهم إنسانيا، ويبدو لي أن هذا وجها من وجوه عشوائية المشهد الإنساني من حولنا.
Wolf1035
دعني أزيدك من الشعر بيتا، كما يقول أهل البلاغة، تتجسد المأساة وتأخذ منحى قذرا، كلما اتسعت دوائر القهر، إذ تمارس من الأقوى على الإطلاق على الأقل منه قوة وتضيق الدوائر إلى أن تصل من الضعيف للأضعف، والكوميديا السوداء هنا،حينما تمارس ما بين الضعفاء إذ يصير المشهد عبثيا حد الاشمئزاز بعدما تصبح الممارسات أكثر قذارة، فالصغار حينما يدخلون في حلبة الوضاعة لن يخرج منها سوى واحد قد يموت على مخرج الحلبة المغلقة، أو يعيش كالأموات على أحسن الأحوال.
لست هنا بحاجة لذكر المواقف والمشاهد التي قد تدور في اليوم والليلة للبرهنة، فيكفي أن تتأمل ما يدور حولك، وسترى بعينيك وتسمع بأذنيك، وربما ترى بداخلك أحد هذه الذئاب المنفردة التي تنهش المارة، كلها مشاهد قد تغني عن كل ما قد يُكتب في سطور هذه التدوينة على سبيل الاستشهاد، وربما تضيف إليها ما يجهله كاتبها.
010
وفق دوائر القهر هذه، وإن صحت الرؤية التي تتجسد في عطاء يقابل بأنانية ويطلب المزيد، ويصبح فرض عين تُلام وتُحاسب، بل وتُعاقب أحيانا إنْ لم يُقدم. أو عطاء يقابل بإنكار وجحود قد يصل بك حد الكفر به. وإذا انعدمت الحيلة لدى من يعطي وأصبحت خسائره أكبر من أن تُحصى حال انسحابه، فيقدم القرابين اضطرارا لحسابات قد يكون هو آخر من يتضرر منها.
إن صحت الرؤية، فنحن أمام ثالوث من البشر؛ ذئاب، وفرائس، وغافلين عن دورهم في هذه اللعبة، وأزعم أن هذا وجها من وجوه تحول المجتمع إلى ذئاب منفردة تصبح غايتها استغلال حقوقك لمصالحها، بل ومحاولة استغفال قدراتك العقلية بزعم أن هذا من فرط كرمهم عليك كي تقبل الأيادي وتكيل المديح لحق مسلوب، إذ تتحول المأساة هنا إلى ساحة للتنافس والتفاخر بنصر مخزٍ، تفوح منه رائحة الجثث المغدورة.. هل تتصور أن تنتصر بنزيف الضحية في لعبة ملعونة بأرواح تطارد قاتلها، وهي حسابات لا يقيم لها أحد وزنا، أو يعد لها حسابا، فهي رومانسية مفرطة وسط زمن دهسته الآلات الثقيلة لرأس المال، أدركنا أو لم ندرك.
والآن عليك أن تبحث عن الذئب،
أقتلته أم لا يزال ينهش ما بداخلك دون أن تشعر به.

“العين فلقت الحجر”.. هل يخشى المصريون من الحسد؟

“العين مبتحبش تشوف اللى أحسن منها يا ولدى، حتى لو الإنسان مش قاصد يحسد، العين بتصيب من غير ما تحس”.. بهذه الجمل القصيرة الدالة بدأت السيدة أميمة، البالغة من العمر 56 عاما، حديثها حينما سألتها عن مدى إيمانها بالحسد.

تقول أميمة، وهى صعيدية أصيلة الملامح، ترك الزمن تجاعيده على وجهها رغم احتفاظها ببعض الجمال، “إنها الابنة الأولى، التى نجت من قبضة الموت بعدما وافت المنية سبع أشقاء لها قبل أن يتجاوزوا عامهم الأول، فجأة وبدون مقدمات”.

تضيف السيدة الجنوبية، عن رواية أمها “فى الطفل الثامن، (وهو أخى الذى تخيرته الأقدار ليحيا)، ذهبت أمى إلى جميع الشيوخ تطلب منهم العون، والإرشاد لحماية ابنها، وأجمعوا أنها محسودة من امرأة أخرى، وأن قرين هذه المرأة قوى، وهو من ينفذ أمر العين”.

سألتها ماذا يعنى (تنفيذ أمر العين؟)، فأخبرتنى: “كان يقصد أن هذا القرين هو من يقتل الأطفال”.

141021160438_eye-of-horus-papy_ori.jpg

سلطة الموروث

يقتنع الكثير من الناس بالمثل المصري القائل “العين فلقت الحجر”، ربما لهذا رددوا مثلا آخر  “دارى على شمعتك تقيد”، ليعبر هذا وذاك عن الصورة الذهنية للحسد في الموروث الشعبي المصري، وربما ذِكر الحسد فى القرآن والحديث النبوى أكد مخاوفهم ومخاوف غيرهم، وأصبح حقيقة لا تقبل التنكر لها، خاصة مع وجود بعض المرويات العابرة للأجيال، بل وقوع حوادث مشابهة لهذه المرويات فى الواقع المعاش، ووجود صدى لذكر الحسد في عدد من ثقافات العالم القديمة والمعاصرة.

غياب التفسير العلمى لظاهرة الحسد، أو العين الشريرة” أيضا، ربما صنع جدلا مع ظهور ما يطلق عليه “علم الطاقة الكونى”، ورفضِهِ لـ”الحسد” من قِبل أنصار التفسير العلمى البحت، لتعارضه مع قوانين الفيزياء والطب، وفقا لآرائهم. وأرجع البعض صمود خرافة الحسد حتى يومنا هذا دون باقى الخرافات التى اندثرت فى عصر العلم إلى “تراكم الخرافات عبر الزمن”، بحسب مجلة “العلوم الحقيقية” الإلكترونية.

 ويظل السؤال مطروحا هل لدى المصريين ما يُحسدون عليه؟ أم أن الحسد مجرد أوهام تتجسد فى النفوس من وقع الأثر النفسى لسلطة الموروث؟، وما طبيعة تصور المصريين عن الحسد؟

 

سيدة جنوبية: وليمة القرين أنقذت أخي الثامن من قبضة الموت

 

وليمة القريـــن

تستكمل السيدة أميمة روايتها “بأن الشيخ نصح أمها بـ(جلسه صلح) مع قرين المرأة الحاسدة، واشترط أن تجلس بمفردها فى الغرفة، وأن تجهز الطعام وتضعه على المائدة، وتجلس فى انتظار القرين هى والطفل، وبالفعل تمت جلسة الصلح، واختفى الطعام”.

أوضحت: “أن القرين كانت له طلبات مقابل حياة الطفل الثامن، تذكر منها أن يرضع من أنثى الحمار، ويلبس ملابس قديمة إلى أن يكبر ويصير شابا!!”.

ربما يرى البعض أثر الخرافة فيما ترويه السيدة، لكن الغريب أيضا أن “لعنة الحسد أو العين الشريرة، تسود فى عدد من ثقافات العالم، إذ تـُعرف فى الثقافة العبرية بـ”عين حوتـــه”، وفى ثقافة المغرب العربى بـ”العين الحرشة”، كما تتنوع مسمياتها أيضا فى عدد من الثقافات العالمية منها الألمانية، والإيطالية، والفرنسية”، وفقا لمجلة العلوم الحقيقية.

 

سلطة الموروث ووجود الحسد فى عدة ثقافات رسخ فكرة الظاهرة في المجتمع

 

 

fa18c5e8020d55a7009831ea218efc27--magic-symbols-symbols-and-meaningsورغم هذا، يـُعدُ بعض المصريين وشعوب المنطقة العربية العين والحسد عدوهم اللدود فى الحياة, فما إن يقع مكروه لأحدهم إلا ويرجع السبب إلى أن ما حدث هو العين أو “عين فلان تحديدا”، كما يتفنون فى ابتكار وسائل متعددة للتصدى للعين، فمثلا عند شراء سيارة جديدة تجد من ينصحك بذبح حيوان أو طير، شريطة أن يكون بأربعة أرجل، ثم تضع يدك فى الدم وتضع علامة اليد بالخمسة أصابع على هيكل السيارة، وتتركها لمدة يومين، وبعضهم يضع فردة شبب على إكصدام السيارة الخلفى، أو خرزة زرقاء وغيرها من الممارسات التى تبطل العين والحسد.

 

شاب يروى: “عين الكفيف” دمرت كل ما تلحق به يده

عين الكفيف

يروى أحمد، شاب ريفى فى الثلاثين من عمره، أن فى قريته الصغيرة التابعة لمحافظة المنوفية كان هناك رجل مسن يدعى الشيخ سلامة، وكان كفيفا، يمشى متكأ على عصاه، يتحسس بها طريقه من المنزل إلى المسجد.

يتابع أحمد: “أثناء مرور الشيخ سلامة على أقاربه وجيرانه وبمجرد أن يتحسس بيده الشىء ينتهى أمره؛ فمثلا كان يلمس الجاموسة تموت في اليوم التالى، تخبره عن أمر تنتظره، فلا يحدث، مع تكرار مثل هذه الأحداث معه عُـرف بين الناس بـ(العين الوحشة)، ففر منه الناس أينما وجد”.

بسؤال أحمد عن إمكانية تحكم الحسد فى حياة الإنسان، أجاب: “القدر واحد، ولكنها أسباب، وربنا أمرنا نأخد بالأسباب”، يتابع الشاب: “في صغري كانت جدتى ومن بعدها أمى ترقينا  كل يوم جمعة، تشعل البخور وتمسح البيت بالملح”. يتابع “فى زمن مضى لم أكن أؤمن بالحسد، وحين كبرت، وتكرر كثير من المواقف أمام عينى، تأكدت من وجوده”، ومع هذا يؤكد الشاب أنه يحيا على طبيعته، ولا يمارس أى طقوس درءا لشرور الحسد، ببساطة “لم يعد يبالى بهذا الأمر”.

عروسة الحسد

 “عروسة الحسد”  أشهر الوسائل وأقدمها لدرء الأرواح الشريرة عن المحسود على مر العصور إلى وقتنا هذا، إلى جوار وسائل أخرى منها تعليق الخرزة الزرقاء، أو حدوة الحصان، وإشعال البخور في المنزل، أو تعليق حجاب أو حرز (ورقة مكتوب بداخلها آيات قرآنية وأحاديث وربما أمور أخرى) في رقبة  المحسود، أو توضع تحت الوسادة، أو فى أماكن مختلفة من المنزل، لتقيه شر العين.

 

غياب التفسير العلمى للحسد صنع جدلا فيما يعرف بـ”علم الطاقة الكونى”

 

تحكى الجدة ليلى، أن العروسة عبارة عن ورقة، تقص على شكل عروسة بذراعين وساقين، ثم يمسك شخص بدبوس أو إبرة خياطة، ويبدأ فى ثقب الورقة”.

عن سبب هذه الثقوب تخبرنا: “أن كل ثقب يـُعدُ عينَ حاسد، حيث يسمى مع كل ثقب اسم معين (من عين فلان ويذكر اسمه)، وفى النهاية تحرق العروسة الورقية، ويؤخذ الرماد ونضع نقطة منه على جبين المحسود لعدة ساعات، وبعدها يزول شر العين”.

 

العروسة والخرزة الزرقاء والدم طرق تبطل عين الحسود

الحجــر

حكايات أخرى ترويها سيدات من الجيل الوسيط، وهن أيضا يؤمن بالحسد. تروى يسرا، ابنة الثانية والأربعين عاما،  “أن سيدة رأت ابنة أختها، طفلة فى الثامنة من عمرها، وعلقت على جمال شعرها وكثافته وطوله، في اليوم التالي دخلت أختى تغسل شعر ابنتها، فأصابها ذعر وهى ترى نصف شعر ابنتها يتحول إلى حجر من دون سبب”، تؤكد يسرا: “شعر البنت لم يصب بأى أعراض عابرة، بل تحول لحجر بالمعنى الحرفي للكلمة، لدرجة أصابت الجميع بالفزع”، تستكمل “لم يكن هناك من حل سوى قص شعرها كاملا”، “وحمدنا ربنا إنها جات على قد كدا”.

ورغم روايتها هذه، فإنها تؤكد أن الحسد لا يتحكم فى مصير أحد، و”لا ينبغى أن نقر بهذا، وإلا سيبقى شماعة لمن فقد الحماس وضعفت إرادته، لظرف أو لآخر، وتعثر فى الوصول إلى هدفه، أو لم يتضح الطريق أمامه من الأساس، وصار من التائهين الذين لا يدركون إلى أين يسير بهم قطار الحياة الذى لا يرحم”.

a3573ade2340b225b5d8de94e995669f

نحن الأرواح الشريرة

أما هند، البالغة من العمر أربعين عاما ، فتؤمن أيضا بالحسد. وروت لنا قصة الفستان الذى احترق بفعل العين، بعدما “لقى إعجاب صديقة لها أثناء ذهابهن لفرح، وأُغلق عليه باب السيارة بالخطأ، وفتحت الباب لتُدِخل الفستان فإذا بالشيفون اتهرى فى لحظة، وكأنه اتحرق حرفيا”.

 إجابتها طرحت سؤالا عن الغرب واحتفالاتهم، ولماذا لا يرى الغربيون رؤيتنا هذه: فأخبرتنى: “معتقداتهم مصدرها تراثهم ودياناتهم، ومع هذا لديهم تصرفات أكثر غرابة منا، شخصيا لا أصدق أن بمقدرة البشر طرد الأرواح الشريرة وما إلى ذلك.. إحنا الأرواح الشريرة”.

تتابع:  “مؤخرا أتعاطف مع الحاسد، أصبحت أشفق عليه، واذا حدث وحددت مَنْ الحاسد؟، (بحكم حدسى بالطبع ليس أكثر)، أستميله، وأشاركه ما يحسدني عليه، ربما يغير رأيه، أو يشعر أن له مصلحة فيما يحسدنى عليه، فيحافظ عليه بدلا من تدميره بعين النقمة وزوال النعم”.

“عين حوتة” و”العين الحرشة” مسميات الظاهرة فى أكثر من لسان وثقافة

 

من حق القارئ أن يرى فكرة الحسد على الطريقة التى تمليه عليه قناعاته، وعلى النحو الذى يرضى منطقه الشخصى، لكننا فى نهاية المطاف أمام ظاهرة لا نستطيع التنكر لوقائعها مهما احتكمنا إلى النظريات العلمية التى لم تتمكن من تقديم طرح يفسر الظاهرة، أكثر من كونها “تراكم الخرافات عبر الزمن”، وأنها بفعل تأثير نفسى من المريض الذى يمتلك نزعات لتدمير ذاته، ويسعى لإيهام نفسه بخلق مبرر يوحى له بفكرة الحظ السيئ، وفقما تحاول مجلة “العلوم الحقيقية” إثبات ذلك.

مدونة مصطفى سليم